إذا قيل لك ( كسّر هذا الزجاج) قد تكون العملية سهلة، لأنها لا تتطلب إلا إنهاء الزجاج والقضاء عليه، وهذا قد يتم في طرفة عين، أما إذا قيل لك: احتفظ بهذا الزجاج فلا ينكسر، فإن العمل هنا قد يتطلب مجهودات كبرى، لأن الزجاج نفسه قابل للانكسار.
والواقع أن أغلب النفوس والفهوم تتوهم أحيانا أن كسر الزجاج هو الذي يمّثل الشجاعة الكبرى، والتضحية العظمى أكثر من إبقائه مع المحافظة عليه من الفساد والدمار والهلاك.
وهذه الأغلوطة والتوهم ينطبق تماما على مفهوم الجهاد بمعنى القتال والمقاتلة والتي قد تنهي الحياة تماما، وتقضي على النفس، وتخلصك من مسؤولية المحافظة عليها بترك المنكرات وإتيان الأوامر، كما تنطبق تماما على مفهوم الجهاد بمعنى ترك المعاصي مع الاستمرار في الحياة والذي يلزمك أن تحافظ فيها على المأمورات وتجتنب المنهيات مع أن ملهيات الليالي والأيام تجرك إليها جرا.
ومثل هذا الفهم قد تبادر إلى بعض الصحابة عندما كان مفهوم الجهاد لم تكتمل عندهم، وكان في طور التطور والاكتمال، وكانت المهمة المحمدية أن يصحح هذا المفهوم ويعالجه ويقومه، وكانت إحدى القضايا التي عالج بها النبي (صلى الله عليه وسلم) مفهوم الجهاد عند الصحابيات المتعطشات إلى الدور الرجالي في الصفوف الأمامية على ساحات القتال هو الحج المبرور، فاقرأ معي هذا الحديث الذي يرويه البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: ( أنها قالت: يا رسول الله، نرى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟ قال: "لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور" فهنا نرى في الخطاب النبوي العقلاني المنطقي تصحيحا لمنطق الجهاد في العقلية النسوية الصحابية، فهو يوجههن أن أفضل الجهاد في حقهن هو الحج المبرور. وهناك ملحظ آخر أدق وأعمق، وهو أن الجواب النبوي للصحابيات تضمن أمرين:
الإجابة عن السؤال الأساسي المطروح منهن، وتصحيح المفهوم النسوي عن الجهاد نفسه. فلاحظ طرحن ( نرى الجهاد أفضل الأعمال) فيبدو أنهن قصدن أن الجهاد ينحصر في القتال فقط، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) أجاب بذكر الأفضل من القتال في حقهن وهو الحج المبرور، وصحح الخطأ المفاهيمي المتبادر من سؤالهن، فقال ( أفضل الجهاد الحج المبرور) فيوجه بشكل غير مباشر العقلية الإسلامية النسائية أن الحج المبرور من أنواع الجهاد وأنه أفضل من القتال في هذه الظروف الخاصة.
وأداء الحج المبرور يمثل الاحتفاظ على الزجاج حتى لا ينكسر، أما القتال فيمثل تكسير الزجاج، فالحج المبرور يتطلب متطلبات كثيرة، منها إخلاص النية، ونظافة النفقة، وأداء الحج على الوصف الهادوي النبوي، وعدم تدنيسه بالرفث والفسوق، أما القتال فيتطلب أمران فقط، النية الصالحة وممارسة العملية القتالية. وخذ مثالا آخر على التصحيح المفاهيمي الجهادي من النبي (صلى الله عليه وسلم) للصحابة وكيف استخدم سيناريو ( بطولية كسر الزجاج وبطولية الاحتفاظ على الزجاج لئلا ينكسر)
فالصحابي الذي جاء إليه يسامحه للمشاركة في الجهاد، فأرشده، وقال له (أحي والداك) فقال نعم. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم) " ففيهما فجاهد" وهذا الصحابي رضي الله عنه كان يعتقد أن كسر الزجاج أكثر بطولية من الاحتفاظ عليها، فغير النبي (صلى الله عليه وسلم) مفهومه، وأرشده أن الاحتفاظ على الزجاج أو البيضة لئلا تنكسر أصعب وأكثر أهمية وأكبر أجرا.
إن كون النبي (صلى الله عليه وسلم) يرتب أحيانا القتال في سبيل الله كأفضل الأعمال بعد الإيمان، كما في حديث أبي هريرة أن النبي (صلى عليه وسلم) سئل أي الأعمال أفضل؟ قال: "إيمان بالله ورسوله" قيل: ثم ماذا؟ قال: " جهاد في سبيل الله" قيل: " ثم ماذا؟ قال: " حج مبرور" لا يبرر إطلاقا أن يكون الجهاد هو الأفضل بعد الإيمان في كل الظروف، وفي حال كل شخص، وفي كل الفترات التي تمر بها الأمة، وبكل الأساليب التي تستخدمها بوكو حرام وداعش وغيرهم، إن أفضلية القتال تخضع للمصلحة الشرعية والأممية التي تقدرها العلماء الربانيون، وليس هناك شك أن من الصبيانية الفكرانية أن يكون هناك هوس قتالي عند مجموعات من شباب الأمة دون أن يتقيدوا بالضوابط المصلحية التي تحكم الزمن والأشخاص والآليات وغيرها، فياليت هؤلاء قاموا بالجهاد ضد أنفسهم بأن يلجموها عن أغوائها وضلالاتها ويتقيدوا بالإسلام وضوابطه، ولا يوجهوا سهامهم إلى نحور المسلمين وصدورهم ، فعيشهم في سبيل الله هو الجهاد الأفضل، وليتهم فهموا أن الاحتفاظ بالزجاج أصعب من كسره.
0 التعليقات:
إرسال تعليق